كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} حكاية لاحتجاجه تعالى على العبدة بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن المعبودين عند تمام جوابهم وتوجيهه إلى العبدة مبالغة في تقريعهم وتبكيتهم على تقدير قول مرتب على الجواب أي فقال الله تعالى عند ذلك: قد كذبكم المعبودون أيها الكفرة، وقال بعض الأجلة: الفاء فصيحة مثلها في قول عباس بن الأحنف:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ** ثم القفول فقد جئنا خراسانا

والتقدير هنا قلنا أو قال تعالى إن قلتم إنهم آلهة فقد كذبوكم {بِمَا تَقُولُونَ} أي في قولكم على أن الباء بمعنى في وما مصدرية والجار والمجرور متعلق بالفعل والقول بمعنى المقول، ويجوز أن تكون ما موصولة والعائد محذوف أي في الذي تقولونه، وجوز أن تكون الباء صلة والمجرور بدل اشتمال من الضمير المنصوب في كذبوكم، والمراد بمقولهم أنهم آلهة أو هؤلاء أضلونا، وتعقب بأن تكذيبهم في هذا القول لا تعلق له بما بعده من عدم استطاعتهم للصرف والنصر أصلًا وإنما الذي يستتبعه تكذيبهم في زعمهم أنهم آلهتهم وناصروهم وفيه نظر كما سنشير إليه قريبًا إن شاء الله تعالى، وقيل: الخطاب للمعبودين أي فقد كذبكم العابدون أيها المعبودون في قولكم {سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء} [الفرقان: 18] حيث زعموا أنكم آلهة، والمراد الحكم على أولئك المكذبين بالكفر على وجه فيه استزادة غيظ المعبودين عليهم وجعله مفرعًا عليه ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والفاء أيضًا فصيحة، والجملة جزاء باعتبار الأخبار، وقيل: هو خطاب للمؤمنين في الدنيا أي فقد كذبكم أيها المؤمنون الكفرة في الدنيا فيما تقولونه من التوحيد وجىء بالكلام ليفرع عليه ما بعد وكلا القولين كما ترى والثاني أبعدهما، وقرأ أبو حيوة {يَقُولُونَ} بالياء آخر الحروف وهي رواية عن ابن كثير وقنبل، والخطاب في {كَذَّبُوكُمْ} للعابدين وضمير الجمع فيه وفي {يَقُولُونَ} للمعبودين أي فقد كذبكم أيها العبدة المعبودون بزعمكم بقولهم {سبحانك} [الفرقان: 18] الخ والباء للملابسة أو الاستعانة، وفيه أيضًا القولان السابقان أي فقد كذبكم أيها المعبودون العبدة بقولهم إنكم آلهة أو فقد كذبكم أيها المؤمنون الكفار في التوحيد بقولهم إن هؤلاء المحكي عنهم آلهة {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ} أي فما تملكون أيها العبدة {صَرْفًا} أي دفعًا للعذاب عن أنفسكم بوجه من الوجوه كما يعرب عنه التنكير أي لا بالذات ولا بالواسطة، وقيل: حيلة من قولهم: إنه ليصرف في أموره أي يحتال فيها، وقيل: توبة، وقيل: فدية والأول أظهر فإن أصل الصرف رد الشيء من حالة إلى أخرى وإطلاقه على الحيلة أو التوبة أو الفدية مجاز، والمراد فما تملكون دفعًا للعذاب قبل حلوله {وَلاَ نَصْرًا} أي فردًا من أفراد النصر أي العون لا من جهة أنفسكم ولا من جهة غيركم بعد حلوله، وقيل: نصرًا جمع ناصر كصحب جمع صاحب وليس بشيء، والفاء لترتيب عدم الاستطاعة على ما قبلها من التكذيب لكن لا على معنى أنه لولاه لوجدت الاستطاعة حقيقة بل في زعمهم حيث كانوا يزعمون أنهم يدفعون عنهم العذاب وينصرونهم وفيه ضرب تهكم بهم، والمراد من التكذيب المرتب عليه ما ذكر تكذيبهم بقولهم إنهم آلهة، ويجوز أن يراد به تكذيبهم بقولهم: هؤلاء أضلونا وهو متضمن نفي كونهم آلهة وبذلك يتم أمر الترتيب.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وأكثر السبعة {يَسْتَطِيعُونَ} بالياء التحتية أي فما يستطيع آلهتكم دفعًا للعذاب عنكم، وقيل حيلة لدفعه، وقيل فدية عنكم ولا نصرًا لكم، وقيل في معنى الآية على تقدير كون الخطاب السابق للمؤمنين إنه سبحانه أراد أن هؤلاء الكفرة شديد والشكيمة في التكذيب الموجب للتعذيب فما تستطيعون أنتم صرفهم عنه ولا نصرًا لكم فيما يصيبهم مما يستوجبه من العذاب هذا على قراءة حفص {تَسْتَطِيعُونَ} بالتاء الفوقية؛ وأما على قراءة الجماعة {يَسْتَطِيعُونَ} بالياء فالمعنى ما يستطيعون صرفًا لأنفسهم عما هم عليه ولا نصرًا لها فيما استوجبوه بتكذيبهم من العذاب أو فيما يستطيعون صرفكم عن الحق الذي أنتم عليه ولا نصرًا لأنفسهم من العذاب انتهى وهو كما ترى {وَمَن يَظْلِم} أي يكفر {مّنكُمْ} أيها المكلفون ويعبد من دون الله تعالى إلهًا آخر كهؤلاء الكفرة {نُذِقْهُ} في الآخرة {عَذَابًا كَبِيرًا} لا يقادر قدره وهو عذاب النار، وقرئ {يذقه} على أن الضمير لله عز وجل، وقيل: لمصدر يظلم أي يذقه الظلم والإسناد مجازي، وتفسير الظلم بالكفر هو المروى عن ابن عباس، والحسن وابن جريج، وأيد بأن المقام يقتضيه فإن الكلام في الكفر ووعيده من مفتتح السورة، وجوز أن يراد به ما يعم الشرك وسائر المعاصي والوعيد بالعذاب لا ينافي العفو بالنسبة إلى غير المشرك لما حقق في موضعه.
واختار الطيبي التفسير الأول وجعل الخطاب للكفار أيضًا لأن الكلام فيهم من أول وقد سبق {بُورًا فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} وهذه الآية لما يجري عليهم من الأهوال والنكال من لدن قوله تعالى: {إِذَا رَأَيْتَهُمْ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} [الفرقان: 12] ومعنى {وَمَن يَظْلِم} حينئذٍ ومن يدم على الظلم، وفي الكشف الوجه أن الخطاب عام والظلم الكفر {وَمَن يَظْلِم} مظهر أقيم مقام المضمر تنبيهًا على توغلهم في الكفر وتجاوزهم حد الإنصاف والعدل إلى محض الاعتساف والجدل فيما رموا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الأصل فلا يستطيعون صرفًا ولا نصرًا ونذيقهم عذابًا كبيرًا أو نذيقكم على اختلاف القرائتين والحمل على من يدم على الظلم منكم ليختص الخطاب بالكفار صحيح أيضًا ولكن تفوته النكتة التي ذكرناها انتهى.
ولا يخفى أن كونه من إقامة المظهر مقام المضمر خلاف الظاهر فتأمل.
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ في الأسواق}.
قيل هو تسلية له صلى الله عليه وسلم عن قولهم {مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} [الفرقان: 7] بأن لك في سائر الرسل عليهم السلام أسوة حسنة فإنهم كانوا كذلك، وقال الزجاج: احتجاج عليهم في قولهم ذلك كأنه قيل كذلك كان من خلا من الرسل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق فكيف يكون محمد صلى الله عليه وسلم بدعًا من الرسل عليهم السلام.
ورده الطيبي بأنه لا يساعد عليه النظم الجليل لأنه قد أجيب عن تعنتهم بقوله تعالى: {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الامثال} [الإسراء: 48] وتعقبه في الكشف بقوله: ولقائل أن يقول هذا جواب آخر كما أجيب هنالك من أوجه على ما نقل عن الإمام وجعل قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ} جوابًا ثالثًا وعقبه بقوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة} [الفرقان: 11] لمكان المناسبة وتم الوعيد ثم أجابهم سبحانه جوابًا آخر يتضمن التسلية أيضًا وهذا يساعد عليه النظم الجليل، والجملة التي بعد إلا قيل صفة ثانية لموصوف مقدر قبل {مِنَ المرسلين} والمعنى ما أرسلنا قبلك أحدًا من المرسلين إلا آكلين وماشين.
وتعقب بأن فيه الفصل بين الموصوف والصفة بإلا وقد رده أكثر النحاة كما في المغني، ومن هنا جعلها بعضهم صفة لموصوف مقدر بعد إلا وذلك بدل مما حذف قبل وأقيمت صفته مقامه، والمعنى ما أرسلنا قبلك أحدًا من المرسلين إلا رجالًا أو رسلًا أنهم الخ، وفيه الفصل بين البدل والمبدل منه وهو جائز عندهم.
وقدر الفراء بعد إلا من وهي تحتمل أن تكون موصولة وأن تكون نكرة موصوفة، وجعل بعضهم الجملة في محل نصب بقول محذوف وجملة القول صفة أي إلا رجالًا أو رسلًا قيل أنهم الخ وهو كما ترى، وقال ابن الأنباري: الجملة حالية والاستثناء من أعم الأحوال والتقدير إلا وإنهم.
قال أبو حيان: وهو المختار، وقدر الواو بناءً على أن الاكتفاء في مثل هذه الجملة الحالية بالضمير غير فصيح، وربما يختار عدم التقدير ويمنع دعوى عدم الفصاحة أو يحمل ذلك على غير المقترن بإلا لأنه في الحقيقة بدل، ووجه كسر إن وقوعها في الابتداء ووقوع اللام بعدها أيضًا.
وقرئ {أَنَّهُمْ} بالفتح على زيادة اللام بعدها وتقدير جار قبلها أي لأنهم يأكلون الخ.
والمراد ما جعلناهم رسلًا إلى الناس إلا لكونهم مثلهم، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود وعبد الرحمن بن عبد الله {يَمْشُونَ} بتشديد الشين المفتوحة مع ضم الياء مبنيًا للمفعول أي يمشيهم حوائجهم أو الناس والتضعيف للتكثير كما في قول الهذلي:
يمشي بيننا حانوت خمر

وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي كما في البحر {يَمْشُونَ} بضم الياء والشين مع التشديد مبنيًا للفاعل وهو مبالغة يمشي المخفف فهي مطابقة للقراءة المشهورة ولا يحتاج إلى تقدير يمشيهم حوائجهم ونحوه.
وأنشدوا قوله:
ومشى بأغصان المباءة وابتغى ** قلائص منها صعبة وذلول

وقوله:
فقد تركت خزينة كل وغد ** يمشي بين خاتام وطاق

وفي بعض نسخ الكشاف ما يدل على أنه لم يظفر بهذه القراءة، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} قيل تسلية له صلى الله عليه وسلم أيضًا لكن عن قولهم: {أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة} [الفرقان: 8] أي وجعلنا أغنياءكم أيها الناس ابتلاء لفقرائكم لننظر هل يصبرون {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} أي عالمًا بالصواب فيما يبتلى به وغيره فلا يضيقن صدرك ولا تستخفنك أقاويلهم، وقيل تصبير له عليه الصلاة والسلام على ما قالوه واستبدعوه من أكله الطعام ومشيه في الأسواق بعد الاحتجاج عليهم بسائر الرسل، والكلام من تلوين الخطاب بتعميمه لسائر الرسل عليهم السلام بطريق التغليب على ما اختاره بعضهم، والمراد بالبعض الأول كفار الأمم واختصاصهم بالرسل مصحح لأن يعدوا بعضًا منهم وبالبعض الثاني رسلهم على معنى جعلنا كل بعض معين من الأمم فتنة لبعض معين من الرسل كأنه قيل وجعلنا كل أمة مخصوصة من الأمم الكافرة فتنة لرسولها المعين.
وإنما لم يصرح بذلك تعويلًا على شهادة الحال، وحاصله جرت سنتنا بموجب حكمتنا على ابتلاء المرسلين بأممهم وبمناصبتهم لهم العداوة وإطلاق ألسنتهم فيهم بالأقاويل الخارجة عن حد الإنصاف وسلوكهم في أذاهم كل مسلك لنعلم صبرهم أو هو خطاب للناس كافة على ما قيل وهو الظاهر، والبعض الأول أعم من الكفار والأغنياء والأصحاء وغيرهم ممن يصلح أن يكون فتنة والبعض الثاني أعم من الرسل والقراء والمرضى وغيرهم ممن يصلح أن يفتن.
والكلام عليه مفيد لتصبره صلى الله عليه وسلم على ما قالوه وزيادة، وقيل: المراد بالبعض الأول من لا مال له من المرسلين وبالبعض الثاني أممهم ويدخل في ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته دخولًا أوليًا فكأنه قيل جعلناك فتنة لأمتك لأنك لو كنت صاحب كنوز وجنات لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا أو ممزوجة بالدنيا وإنما بعثناك لا مال لك ليكون طاعة من يطيعك منهم خالصة لوجه الله تعالى من غير طمع دنيوي وكذا حال سائر من لا مال له من المرسلين مع أممهم والأظهر عموم الخطاب والبعضين وهو الذي تقتضيه الآثار وإليه ذهب ابن عطية فقال: ذلك عام للمؤمن والكافر فالصحيح فتنة للمريض والغنى فتنة للفقير والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس الكفار في عصره وكذلك العلماء وحكام العدل، وقد تلا ابن القاسم هذه الآية حين رأى أشهب انتهى، واختار ذلك أبو حيان، ولا يضر فيه خصوص سبب النزول فقد روي عن الكلبي أنها نزلت في أبي جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل ومن في طبقتهم قالوا: إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار وصهيب وبلال وفلان وفلان ترفعوا علينا إدلالًا بالسابقة.
والاستفهام إما في حيز التعليل للجعل ومعادله محذوف كما حذف فيما لا يحصى من الأمثلة والتقدير لنعلم أتصبرون أم لا أي ليظهر ما في علمنا وقرينة تقدير العلم تضمن الفتنة إياه.
وإما أن لا يكون في حيز التعليل وليس هناك معادل محذوف بأن يكون للترغيب والتحريض والمراد اصبروا فإني ابتليت بعضكم ببعض.
ويجوز أن لا يقدر معادل على تقدير اعتبار التعليل أيضًا بأن يكون الخطاب للرسل عليهم السلام على ما سمعت.
وجعل ابن عطية الخطاب فيما سبق عامًا وفي {أَتَصْبِرُونَ} خاصًا بالمؤمنين الذين جعل إمهال الكفار فتنة لهم في ضمن العموم السابق وقدر معادلًا فقال: كأنه جعل إمهال الكفار فتنة للمؤمنين ثم وقفهم أتصبرون أم لا.
وجعل قوله تعالى: {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} وعدًا للصابرين ووعيدًا للعاصين.
وجعله بعضهم وعدًا للرسول صلى الله عليه وسلم بالأجر الجزيل لصبره الجميل مع مزيد تشريف له عليه الصلاة والسلام بالالتفات إلى اسم الرب مضافًا إلى ضميره صلى الله عليه وسلم.
وجوز أن يكون وعيدًا لأولئك المعاندين له عليه الصلاة والسلام جىء به إتمامًا للتسلية أو التصبر وليس بذاك.
واستدل بالآية على القضاء والقدر فإنها أفادت أن أفعال العباد كعداوة الكفار وإيذائهم بجعل الله تعالى وإرادته والفتنة بمعنى الابتلاء وإن لم تكن من أفعال العباد إلا أنها مفضية ومستلزمة لما هو منها.
وفيه من الخفاء ما فيه. اهـ.